الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ، وَالِاسْتِعَارَةُ مَجَازٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْدِيرُهُ، وَمَنَعَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الِاسْتِعَارَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إِيهَامًا لِلْحَاجَةِ، وَهَكَذَا كَمَا مَنَعَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ: " الْقُرْآنُ [أَوْ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ] مَخْلُوقٌ " وَهُوَ لَا يُنْكِرُ وُقُوعَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ فِيهِ، إِنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى إِذْنِ الشَّرْعِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلْإِطْلَاقِ شَرَطُوا عَدَمَ الْإِبْهَامِ، وَقَدْ يَمْنَعُونَ الْإِبْهَامَ، وَقَدْ يَمْنَعُونَ الْإِبْهَامَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ لِأَعْلَى مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ. وَقَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: " إِنْ أَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِعَارَةَ فِيهِ أَطْلَقْنَاهَا، وَإِنِ امْتَنَعُوا امْتَنَعْنَا، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ، وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَقْلُ، ثُمَّ لَا نَصِفُهُ بِهِ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ. انْتَهَى. وَالْمَشْهُورُ تَجْوِيزُ الْإِطْلَاقِ.
ثُمَّ فِيهَا مَبَاحِثُ
الْأَوَّلُ: وَهِيَ " اسْتِفْعَالٌ " مِنَ الْعَارِيَّةِ، ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّخْيِيلِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّخْيِيلِ وَالتَّشْبِيهِ مَعَ الْإِيجَازِ؛ نَحْوِ: لَقِيتُ أَسَدًا، وَتَعْنِي بِهِ الشُّجَاعَ. وَحَقِيقَتُهَا الِاسْتِعَارَةُ أَنْ تُسْتَعَارَ الْكَلِمَةُ مِنْ شَيْءٍ مَعْرُوفٍ بِهَا إِلَى شَيْءٍ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْخَفِيِّ، وَإِيضَاحُ الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِجَلِيٍّ، أَوْ بِحُصُولِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلْمَجْمُوعِ. فَمِثَالُ إِظْهَارِ الْخَفِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} (الزُّخْرُفِ: 4) فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ؛ فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ " الْأُمِّ " لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَنْشَأُ مِنَ الْأُمِّ، كَمَا تَنْشَأُ الْفُرُوعُ مِنَ الْأُصُولِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَمْثِيلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ حَتَّى يَصِيرَ مَرْئِيًّا، فَيَنْتَقِلُ السَّامِعُ مِنْ حَدِّ السَّمَاعِ إِلَى حَدِّ الْعِيَانِ؛ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ. وَمِثَالُ إِيضَاحِ مَا لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِيَصِيرَ جَلِيًّا، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (الْإِسْرَاءِ: 24) لِأَنَّ الْمُرَادَ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالذُّلِّ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً؛ فَاسْتُعِيرَ لِلْوَلَدِ أَوَّلًا " جَانِبَ "، ثُمَّ لِلْجَانِبِ " جَنَاحَ " وَتَقْدِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْقَرِيبَةِ: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ، أَيْ: اخْفِضْ جَانِبَكَ ذُلًّا. وَحِكْمَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي هَذَا جَعْلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ مَرْئِيًّا؛ لِأَجْلِ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ خَفْضَ جَانِبِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي الْوَلَدُ مِنَ الذُّلِّ لَهُمَا وَالِاسْتِكَانَةِ مَرْكَبًا؛ احْتِيجَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى؛ فَاسْتُعِيرَ الْجَنَاحُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَحْصُلُ مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَيَّلَ جَانِبَهُ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ أَدْنَى مَيْلٍ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَفَضَ جَانِبَهُ، وَالْمُرَادُ خَفْضٌ يُلْصِقُ الْجَنْبَ بِالْإِبِطِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِخَفْضِ الْجَنَاحِ كَالطَّائِرِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمُلَامِ فَإِنَّنِي *** صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَارُورَةً، وَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ. فَأَرْسَلَ أَبُو تَمَّامٍ: أَنِ ابْعَثْ لِي رِيشَةً مِنْ جَنَاحِ الذُّلِّ أَبْعَثْ إِلَيْكَ مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّشْبِيهَيْنِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ الْجَنَاحِ لِلذُّلِّ كَجَعْلِ الْمَاءِ لِلْمُلَامِ، فَإِنَّ الْجَنَاحَ لِلذُّلِّ مُنَاسِبٌ، فَإِنَّ الطَّائِرَ إِذَا وَهَى وَتَعِبَ بَسَطَ جَنَاحَهُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَلِلْإِنْسَانِ أَيْضًا جَنَاحٌ فَإِنَّ يَدَيْهِ جَنَاحَاهُ، وَإِذَا خَضَعَ وَاسْتَكَانَ يُطَأْطِئُ مِنْ رَأْسِهِ، وَخَفَضَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَحَسُنَ عِنْدَ ذَلِكَ جَعْلُ الْجَنَاحِ لِلذُّلِّ، وَصَارَ شَبَهًا مُنَاسِبًا، وَأَمَّا مَاءُ الْمُلَامِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مُنَاسَبَةِ التَّشْبِيهِ، فَلِذَلِكَ اسْتُهْجِنَ مِنْهُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الِاسْتِعَارَةَ التَّخْيِيلِيَّةَ فِيهِ تَابِعَةٌ لِلِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ؛ فَإِنَّ تَشْبِيهَ الْمُلَامِ بِظَرْفِ الشَّرَابِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ الشَّارِبُ لِمَرَارَتِهِ، ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمُلَامَ لَهُ كَمَائِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ يُشَبَّهُ بِالْمَاءِ، فَالِاسْتِعَارَةُ فِي اسْمِ الْمَاءِ.
الثَّانِي: فِي أَنَّهَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْمَجَازِ؛ الِاسْتِعَارَةُ لِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: لَيْسَ بِمَجَازٍ لِعَدَمِ النَّقْلِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ هِيَ تَشْبِيهٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا، وَلِهَذَا حَدَّهَا بَعْضُهُمْ بِادِّعَاءِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ فِي الشَّيْءِ مُبَالَغَةً فِي التَّشْبِيهِ؛ كَقَوْلِهِمْ: انْشَقَّتْ عَصَاهُمْ؛ إِذَا تَفَرَّقُوا، وَذَلِكَ لِلْعَصَا لَا لِلْقَوْمِ، وَيَقُولُونَ: كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ. وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّشْبِيهَ إِذَا ذُكِرَتْ مَعَهُ الْأَدَاةُ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ، وَإِنْ حُذِفَتْ فَهَذَا يَلْتَبِسُ بِالِاسْتِعَارَةِ، فَإِذَا ذَكَرْتَ الْمُشَبَّهَ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ الْأَسَدُ. فَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (الْبَقَرَةِ: 18) إِنْ لَمْ يُذْكَرِ الْمُشَبَّهُ بِهِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، كَقَوْلِهِ: لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ *** لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ فَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ نَقَلْتَ لَهَا وَصْفَ الشُّجَاعِ إِلَى عِبَارَةٍ صَالِحَةٍ لِلْأَسَدِ، لَوْلَا قَرِينَةُ السِّلَاحِ لَشَكَكْتَ هَلْ أَرَادَ الرَّجُلَ الشُّجَاعَ أَوِ الْأَسَدَ الضَّارِيَ؟
الثَّالِثُ: لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أُصُولٍ أَرْكَانُ الِاسْتِعَارَةِ: مُسْتَعَارٍ، وَمُسْتَعَارٍ مِنْهُ وَهُوَ اللَّفْظُ، وَمُسْتَعَارٍ لَهُ وَهُوَ الْمَعْنَى، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مَرْيَمَ: 4) الْمُسْتَعَارُ الِاشْتِعَالُ، وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ النَّارُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ مُشَابَهَةُ ضَوْءِ النَّهَارِ لِبَيَاضِ الشَّيْبِ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ وَصْفُ مَا هُوَ أَخْفَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَظْهَرُ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَاشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ، وَإِنَّمَا قَلَبَ لِلْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ عُمُومُ الشَّيْبِ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَوْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ الْعُمُومَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: كَثُرَ الشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَعْنَى يُعَارُ أَوَّلًا، ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِ يُعَارُ اللَّفْظُ، وَلَا تَحْسُنُ الِاسْتِعَارَةُ إِلَّا حَيْثُ كَانَ الشَّبَهُ مُقَرَّرًا بَيْنَهُمَا ظَاهِرًا، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالشَّبَهِ، فَلَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ نَخْلَةً أَوْ خَامَةً وَأَنْتَ تُرِيدُ مُؤْمِنًا؛ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّخْلَةِ أَوِ الْخَامَةِ، لَكُنْتَ كَالْمُلْغِزِ. وَمِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (التَّكْوِيرِ: 18) وَحَقِيقَتُهُ " بَدَأَ انْتِشَارُهُ " وَ " تَنَفَّسَ " أَبْلَغُ؛ فَإِنَّ ظُهُورَ الْأَنْوَارِ فِي الْمَشْرِقِ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ قَلِيلًا قَلِيلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْرَاجِ النَّفَسِ مُشَارَكَةٌ شَدِيدَةٌ. وَقَوْلُهُ: {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس: 37) لِأَنَّ انْسِلَاخَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَيَزُولَ عَنْهُ حَالًا فَحَالًا، كَذَلِكَ انْفِصَالُ اللَّيْلِ عَنِ النَّهَارِ؛ وَالِانْسِلَاخُ أَبْلَغُ مِنَ الِانْفِصَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ. وَقَوْلُهُ: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (الْكَهْفِ: 29). {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (الْقَلَمِ: 16). وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} (الْمُدَّثِّرِ: 50) وَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ الْمَذْمُومِ: إِنَّمَا هُوَ حِمَارٌ. وَقَوْلُهُ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (الْقِيَامَةِ: 29). {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} (النَّازِعَاتِ: 10) أَيْ: فِي الْخَلْقِ الْجَدِيدِ. {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (الْمُطَفِّفِينَ: 14). {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (الْبَلَدِ: 4). أَيْ: ضِيقٍ وَشِدَّةٍ. {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (الْعَلَقِ: 15). {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (الْمَسَدِ: 4). وَقَوْلُهُ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} (الدُّخَانِ: 29). {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (الْعَنْكَبُوتِ: 67). {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 225). {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} (الْأَعْرَافِ: 131) وَالْمُرَادُ حِفْظُهُمْ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} (الْإِسْرَاءِ: 78) أَيْ: أَتِمَّهَا كَمَا أُمِرْتَ. {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} (الْإِسْرَاءِ: 60) أَيْ: عَصَمَكَ مِنْهُمْ، رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنِ الْحَسَنِ. {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} (الزُّخْرُفِ: 4). {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (الْأَنْعَامِ: 59). {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الْأَعْرَافِ: 154). {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الْإِسْرَاءِ: 12). {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الْأَنْبِيَاءِ: 18) فَالدَّمْغُ وَالْقَذْفُ مُسْتَعَارٌ. {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} (الْكَهْفِ: 11) يُرِيدُ: لَا إِحْسَاسَ بِهَا مِنْ غَيْرِ صَمَمٍ. وَقَوْلُهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الْحِجْرِ: 94) فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ " بَلِّغْ " وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّدْعِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّبْلِيغِ، فَقَدْ لَا يُؤَثِّرُ التَّبْلِيغُ، وَالصَّدْعُ يُؤَثِّرُ جَزْمًا.
الرَّابِعُ: تَنْقَسِمُ إِلَى مُرَشَّحَةٍ أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ- وَهِيَ أَحْسَنُهَا- وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَانِبِ الْمُسْتَعَارِ وَتُرَاعِيَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 16) فَإِنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ الَّذِي هُوَ الشِّرَاءُ هُوَ الْمُرَاعَى هُنَا، وَهُوَ الَّذِي رَشَّحَ لَفْظَتِيِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ لِلِاسْتِعَارَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُلَاءَمَةِ. وَإِلَى تَجْرِيدِيَّةٍ، أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَانِبِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، ثُمَّ تَأْتِيَ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَيُلَائِمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} (النَّحْلِ: 112) فَالْمُسْتَعَارُ اللِّبَاسُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْجُوعُ، فَمُجَرَّدُ الِاسْتِعَارَةِ بِذِكْرِ لَفْظِ الْأَدَاةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْمُسْتَعَارِ لَهُ وَهُوَ الْجُوعُ، لَا الْمُسْتَعَارُ وَهُوَ اللِّبَاسُ، وَلَوْ أَرَادَ تَرْشِيحَهَا لَقَالَ: وَكَسَاهَا لِبَاسَ الْجُوعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَاعَاةُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ؛ لِأَنَّ أَلَمَهُمَا يُذَاقُ وَلَا يُلْبَسُ، وَلَا يُكْسَى. وَقَدْ تَجِيءُ مُلَاحَظَةُ الْمُسْتَعَارِ أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (الْمَسَدِ: 4) إِذَا حَمَلْنَا الْحَطَبَ عَلَى النَّمِيمَةِ، فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ فَقَالَ: " حَمَّالَةَ " وَلَمْ يَقُلْ: " رَاوِيَةَ " فَيُلَاحَظُ الْمَعْنَى. وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ بِالْكِنَايَةِ أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ فَهِيَ أَلَّا يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْمُسْتَعَارِ، بَلْ تُذْكَرُ بَعْضُ لَوَازِمِهِ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: شُجَاعٌ يَفْتَرِسُ أَقْرَانَهُ، وَعَالِمٌ يَغْتَرِفُ مِنْهُ النَّاسُ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الشُّجَاعَ أَسَدٌ وَالْعَالِمَ بَحْرٌ. وَمِنْهُ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ كُلُّهُ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ. وَمِنْ أَقْسَامِهَا- وَهُوَ دَقِيقٌ- أَنْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِ الْمُسْتَعَارِ، ثُمَّ يُومِي إِلَيْهِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ تَوَابِعِهِ وَرَوَادِفِهِ؛ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ فَتَقُولُ: شُجَاعٌ يَفْتَرِسُ أَقْرَانَهُ، فَنَبَّهْتَ بِالِافْتِرَاسِ عَلَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَعَرْتَ لَهُ الْأَسَدَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} فَنَبَّهَ بِالنَّقْضِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَبْلِ وَرَوَادِفِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدِ اسْتَعَارَ لِلْعَهْدِ الْحَبْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَابِ الْوَصْلَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاهِدِينَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (الْفُرْقَانِ: 23) لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ " عَمِلْنَا " لَكِنْ " قَدِمْنَا " أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ إِمْهَالِهِمُ السَّابِقِ عَامَلَهُمْ كَمَا يَفْعَلُ الْغَائِبُ عَنْهُمْ إِذَا قَدِمَ فَرَآهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالْإِمْهَالِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الْحَاقَّةِ: 11) لِأَنَّ حَقِيقَةَ " طَغَى " عَلَا، وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ " طَغَى " عَلَا قَاهِرًا. وَكَذَلِكَ {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الْحَاقَّةِ: 6) لِأَنَّ حَقِيقَةَ عَاتِيَةٍ: شَدِيدَةٌ، وَالْعُتُوُّ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ شِدَّةٌ فِيهَا تَمَرُّدٌ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}... الْآيَةَ، وَحَقِيقَتُهُ: لَا تَمْنَعْ مَا تَمْلِكُ كُلَّ الْمَنْعِ، وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَنْعَ النَّائِلِ بِمَنْزِلَةِ غَلِّ الْيَدَيْنِ إِلَى الْعُنُقِ، وَحَالُ الْغُلُولِ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} قِيلَ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ. وَقِيلَ: يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى وَأَنَّهَا أَخْرَجَتْ مَوْتَاهَا، فَسَمَّى الْمَوْتَى ثِقَلًا تَشْبِيهًا بِالْحَمْلِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَطْنِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُسَمَّى ثِقَلًا، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} (الْأَعْرَافِ: 189). وَمِنْهَا جَعْلُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ، أَقْسَامُ الِاسْتِعَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الِادِّعَاءِ وَالْإِحَاطَةِ بِهِ نَافِعَةٌ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (الْقَمَرِ: 14). وَقَوْلِهِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزُّمَرِ: 67) وَيُسَمَّى التَّخْيِيلَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا تَجِدُ بَابًا فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَدَقُّ وَلَا أَعُونُ فِي تَعَاطِي الْمُشَبَّهَاتِ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصَّافَّاتِ: 65) قَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ طَلْعَهَا رُءُوسَ الشَّيَاطِينِ فِي الْقُبْحِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ شَيْطَانًا وَهُوَ ذُو الْقَرْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ شَوْكٌ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ يُسَمَّى رُءُوسَ الشَّيَاطِينِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ تَخْيِيلًا، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَشْبِيهًا مُخْتَصًّا.
الِاسْتِعَارَةُ فَرْعُ التَّشْبِيهِ، فَأَنْوَاعُهَا كَأَنْوَاعِهِ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: اسْتِعَارَةُ حِسِّيٍّ لِحِسِّيٍّ بِوَجْهٍ حِسِّيٍّ، أَنْوَاعُ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فَإِنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ هُوَ النَّارُ، وَالْمُسْتَعَارَ لَهُ هُوَ الشَّيْبُ، وَالْوَجْهُ هُوَ الِانْبِسَاطُ، فَالطَّرَفَانِ حِسِّيَّانِ، وَالْوَجْهُ أَيْضًا حِسِّيٌّ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ التَّشْبِيهَ، وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ، وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ بِهِ مَعَ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الِاشْتِعَالُ. وَقَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} (الْكَهْفِ: 99) أَصْلُ الْمَوْجِ حَرَكَةُ الْمِيَاهِ؛ فَاسْتُعْمِلَ فِي حَرَكَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. الثَّانِي: حِسِّيٍّ لِحِسِّيٍّ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ، أَنْوَاعُ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذَّارِيَاتِ: 41) فَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الرِّيحُ، وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ، وَهُمَا حِسِّيَّانِ، وَالْوَجْهُ الْمَنْعُ مِنْ ظُهُورِ النَّتِيجَةِ وَالْأَثَرِ وَهُوَ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ. قَالَ فِي " الْإِيضَاحِ ": وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقِيمَ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ لَا اسْمٌ لَهَا، وَلِهَذَا جُعِلَ صِفَةً لِلرِّيحِ لَا اسْمًا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ مَا فِي الْمَرْأَةِ مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْحَبَلِ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ مَا فِي الرِّيحِ مِنَ الصِّفَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ إِنْشَاءِ مَطَرٍ وَإِلْقَاحِ شَجَرٍ. وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالْعِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: " الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ " الْمَرْأَةُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالْعَقِيمِ، ذَكَرَهَا السَّكَّاكِيُّ بِلَفْظٍ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ. وَالْغَرَضُ الْوَصْفُ الْعُنْوَانِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس: 37) الْمُسْتَعَارُ لَهُ ظُلْمَةُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ ظُهُورُ الْمَسْلُوخِ عِنْدَ جِلْدَتِهِ، وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ تَرَتُّبُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يُونُسَ: 24) أَصْلُ الْحَصِيدِ النَّبَاتُ وَالْجَامِعُ الْهَلَاكُ، وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ. الثَّالِثُ: مَعْقُولٌ لِمَعْقُولٍ؛ أَنْوَاعُ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} (يس: 52) فَالرُّقَادُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَوْتِ، وَهُمَا أَمْرَانِ مَعْقُولَانِ، وَالْوَجْهُ عَدَمُ ظُهُورِ الْأَفْعَالِ؛ وَهُوَ عَقْلِيٌّ، وَالِاسْتِعَارَةُ تَصْرِيحِيَّةٌ لِكَوْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَذْكُورًا. وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الْأَعْرَافِ: 154) الْمُسْتَعَارُ السُّكُوتُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْغَضَبُ، وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّاكِتُ، وَهَذِهِ أَلْطَفُ الِاسْتِعَارَاتِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَعْقُولٍ لِمُشَارَكَتِهِ فِي أَمْرٍ مَعْقُولٍ. الرَّابِعُ: مَحْسُوسٌ لِمَعْقُولٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} (الْبَقَرَةِ: 214) أَصْلُ التَّمَاسِّ فِي الْأَجْسَامِ فَاسْتُعِيرَ لِمُقَاسَاةِ الشِّدَّةِ، وَكَوْنُ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ حِسِّيًّا وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ عَقْلِيًّا وَكَوْنُهَا تَصْرِيحِيَّةً، ظَاهِرٌ، وَالْوَجْهُ اللُّحُوقُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ. وَقَوْلِهِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 18) فَالْقَذْفُ وَالدَّمْغُ مُسْتَعَارَانِ. وَقَوْلِهِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} (آلِ عِمْرَانَ: 112). وَقَوْلِهِ: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 187). وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (الْأَنْعَامِ: 68) وَكُلُّ خَوْضٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَلَفْظُهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْمَاءِ. وَقَوْلِهِ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الْحِجْرِ: 94) اسْتِعَارَةٌ لِبَيَانِهِ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ، كَظُهُورِ مَاءٍ فِي الزُّجَاجَةِ عِنْدَ انْصِدَاعِهَا. وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} (التَّوْبَةِ: 109) الْبُنْيَانُ مُسْتَعَارٌ، وَأَصْلُهُ لِلْحِيطَانِ. وَقَوْلِهِ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} (هُودٍ: 19) الْعِوَجُ مُسْتَعَارٌ. وَقَوْلِهِ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إِبْرَاهِيمَ: 1) وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ مُسْتَعَارٌ. وَقَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (الْفُرْقَانِ: 23). {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 225) الْوَادِي مُسْتَعَارٌ، وَكَذَلِكَ الْهَيَمَانُ، وَهُوَ عَلَى غَايَةِ الْإِيضَاحِ. {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (الْإِسْرَاءِ: 29). الْخَامِسُ اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَحْسُوسٍ أَنْوَاعُ الِاسْتِعَارَةِ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} (الْحَاقَّةِ: 11) الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ التَّكَبُّرُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْمَاءُ، وَالْجَامِعُ الِاسْتِعْلَاءُ الْمُفْرِطُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الْحَاقَّةِ: 6) الْعُتُوُّ هَاهُنَا مُسْتَعَارٌ. وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} (الْمُلْكِ: 8) فَلَفْظُ الْغَيْظِ مُسْتَعَارٌ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الْإِسْرَاءِ: 12) فَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ (مُضِيئَةٍ). {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (مُحَمَّدٍ: 4). وَمِنْهَا الِاسْتِعَارَةُ بِلَفْظَيْنِ؛ أَنْوَاعُ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} (الْإِنْسَانِ: 16) يَعْنِي تِلْكَ الْأَوَانِي لَيْسَ مِنَ الزُّجَاجِ، وَلَا مِنَ الْفِضَّةِ، بَلْ فِي صَفَاءِ الْقَارُورَةِ وَبَيَاضِ الْفِضَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْفَارِسِيِّ جَعْلُهُ مِنَ التَّشْبِيهِ. وَمِثْلُهُ: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (الْفَجْرِ: 13) يُنْبِي عَنِ الدَّوَامِ، وَالسَّوْطُ يُنْبِي عَنِ الْإِيلَامِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- تَعْذِيبَهُمْ عَذَابًا دَائِمًا مُؤْلِمًا.
مَفْهُومُهَا وَتُسَمَّى الْإِيهَامُ وَالتَّخْيِيلُ وَالْمُغَالَطَةُ وَالتَّوْجِيهُ، وَهِيَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، وَيُرِيدُ الْمَعْنَى الْبَعِيدَ، يُوهِمُ السَّامِعَ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَرِيبَ؛ مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرَّحْمَنِ: 6) أَرَادَ بِالنَّجْمِ النَّبَاتَ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ، وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْكَوْكَبَ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَأْكِيدِ الْإِيهَامِ بِذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} (آلِ عِمْرَانَ: 39) وَالْمُرَادُ الْمَعْرِفَةُ. وَقَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} (الْغَاشِيَةِ: 8) أَرَادَ بِهَا فِي نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ، وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ النُّعُومَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذَّارِيَاتِ: 47) أَرَادَ بِالْأَيْدِ الْقُوَّةَ الْخَارِجَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (الْإِنْسَانِ: 19) أَيْ: مُقَرَّطُونَ تُجْعَلُ فِي آذَانِهِمِ الْقِرَطَةُ، وَالْحَلَقُ الَّذِي فِي الْأُذُنِ يُسَمَّى قُرْطًا وَخَلَدَةً، وَالسَّامِعُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنَ الْخُلُودِ. وَقَوْلُهُ: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (مُحَمَّدٍ: 6) أَيْ: عَلَّمَهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِيهَا أَوْ يُوهِمُ إِرَادَةَ الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (الْمَائِدَةِ: 4). وَقَوْلُهُ: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} (التَّوْبَةِ: 21) فَذَكَرَ (رِضْوَانٍ) مَعَ الْجَنَّاتِ مِمَّا يُوهِمُ إِرَادَةَ خَازِنِ الْجَنَّاتِ. وَكَانَ الْأَنْصَارُ يَقُولُونَ: رَاعِنَا. أَيْ: أَرْعِنَا سَمْعَكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا، وَالْكُفَّارُ يَقُولُونَهَا " فَاعِلٌ " مِنَ الرُّعُونَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هِيَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَلَمَّا عُوتِبُوا قَالُوا: إِنَّمَا نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ، فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشُّورَى: 28) فَقَوْلُهُ: (الْوَلِيُّ) هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ الْوَلِيُّ لِعِبَادِهِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَقَوْلُهُ: (الْحَمِيدُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ " حَامِدٍ " لِعِبَادِهِ الْمُطِيعِينَ، أَوْ " مَحْمُودٍ " فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ، وَهُوَ مَطَرُ الرَّبِيعِ، وَالْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْغَيْثِ. وَقَوْلُهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (يُوسُفَ: 42) فَإِنَّ لَفْظَةَ (رَبِّكَ) رَشَّحَتْ لَفْظَةَ " رَبِّهِ "؛ لِأَنْ تَكُونَ تَوْرِيَةً، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْإِلَهَ سُبْحَانَهُ وَالْمَلِكَ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (يُوسُفَ: 42) لَمْ تَدُلَّ لَفْظَةُ " رَبِّهِ " إِلَّا عَلَى الْإِلَهِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ لَفْظَةُ " رَبِّكَ " احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ.
تنبيه: كَثِيرًا مَا تَلْتَبِسُ التَّوْرِيَةُ بِالِاسْتِخْدَامِ، الْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْرِيَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّوْرِيَةَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَإِهْمَالُ الْآخَرِ، وَفِي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِعْمَالُهُمَا مَعًا بِقَرِينَتَيْنِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ إِنِ اسْتُعْمِلَ فِي مَفْهُومَيْنِ مَعًا فَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ؛ وَإِنْ أُرِيدَ أَحَدُهُمَا مَعَ لَمْحِ الْآخَرِ بَاطِنًا فَهُوَ التَّوْرِيَةُ. وَمِثَالُ الِاسْتِخْدَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (الرَّعْدِ: 38- 39) فَإِنَّ لَفْظَةَ " كِتَابٌ " يُرَادُ بِهَا الْأَمَدُ الْمَحْتُومُ وَالْمَكْتُوبُ، وَقَدْ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ لَفْظَتَيْنِ، فَاسْتَخْدَمَتْ أَحَدَ مَفْهُومَيْهَا وَهُوَ الْأَمَدُ، وَاسْتَخْدَمَتْ (يَمْحُو) الْمَفْهُومَ الْآخَرَ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (النِّسَاءِ: 43) فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَمِلُ إِرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ، وَتَحْتَمِلُ إِرَادَةَ مَوْضِعَهَا، فَقَوْلُهُ: حَتَّى تَعْلَمُوا (النِّسَاءِ: 43) اسْتَخْدَمَتْ إِرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (النِّسَاءِ: 43) اسْتَخْدَمَتْ إِرَادَةَ مَوْضِعِهَا.
مَعْنَاهُ: وَهُوَ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ فِي الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ مَعْنًى آخَرَ؛ كَأَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ، فَتُخْرِجَ ذَلِكَ إِلَى أَلْفَاظِهِ بِمَا اعْتَقَدْتَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: لَئِنْ لَقِيتَ زَيْدًا لَتَلْقَيَنَّ مَعَهُ الْأَسَدَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُ لَتَسْأَلَنَّ مِنْهُ الْبَحْرَ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ أَسَدًا وَبَحْرًا، وَهُوَ عَيْنُهُ، هُوَ الْأَسَدُ وَالْبَحْرُ، لَا أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آلِ عِمْرَانَ: 190) فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِي الْعَالَمِ مِنْ نَفْسِهِ آيَاتٍ، وَهُوَ عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ تِلْكَ الْآيَاتُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 260) وَإِنَّمَا هَذَا نَابَ عَنْ قَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنِّي عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الْأَحْزَابِ: 21). وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} (فُصِّلَتْ: 28) لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا دَارُ خُلْدٍ وَغَيْرُ دَارِ خُلْدٍ، بَلْ كُلُّهَا دَارُ خُلْدٍ فَكَأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ: فِي الْجَنَّةِ دَارُ الْخُلْدِ، اعْتَقَدْتَ أَنَّ الْجَنَّةَ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى دَارِ نَعِيمٍ وَدَارِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَخُلْدٍ، فَجَرَّدْتَ مِنْهَا هَذَا الْوَاحِدَ، كَقَوْلِهِ: وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ تُنْصِفُوا حُكْمٌ عَدْلُ *** وَقَوْلُهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الْأَنْعَامِ: 95) عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " هِيَ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ مَيِّتَةً، وَهُوَ حَيٌّ، وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ " قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ لَفْظَةَ الْإِخْرَاجِ فِي تَنَقُّلِ النُّطْفَةِ حَتَّى تَكُونَ رَجُلًا إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَغْيِيرِ الْحَالِ، كَمَا تَقُولُ فِي صَبِيٍّ جَيِّدِ الْبِنْيَةِ: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا رَجُلٌ قَوِيٌّ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الْأَنْعَامِ: 95) أَيِ: الْحَيَوَانُ كُلُّهِ مَيِّتَةٌ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، قَالَ: وَهُوَ مَعْنَى التَّجْرِيدِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ قَرَأَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرَّحْمَنِ: 37) بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى حَصَلَتْ مِنْهَا وَرْدَةٌ، قَالَ: وَهُوَ مِنَ التَّجْرِيدِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: " يَرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ " (مَرْيَمَ: 6) قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ: وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي مِنْهُ وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وَهُوَ الْوَارِثُ نَفْسُهُ، فَكَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنْهُ وَارِثًا.
مَعْنَاهُ: وَهُوَ إِمَّا بِأَنْ تَتَسَاوَى حُرُوفُ الْكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الرُّومِ: 55). {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} (الصَّافَّاتِ: 72- 73) وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَيْسَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُ الْآيَةِ الْأُولَى. وَإِمَّا بِزِيَادَةٍ فِي إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (الْقِيَامَةِ: 29- 30). وَإِمَّا لَاحِقٌ، بِأَنْ يَخْتَلِفَ أَحَدُ الْحَرْفَيْنِ، كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لِشَدِيدٌ} (الْعَادِيَاتِ: 7- 8). {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (الْقِيَامَةِ: 22- 23). {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (الْأَنْعَامِ: 26). {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} (غَافِرٍ: 75). وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} (النِّسَاءِ: 83). وَإِمَّا فِي الْخَطِّ، وَهُوَ أَنْ تَشْتَبِهَا فِي الْخَطِّ لَا اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الْكَهْفِ: 104). وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 79- 80). وَإِمَّا فِي السَّمْعِ لِقُرْبِ أَحَدِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (الْقِيَامَةِ: 22- 23).
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: نَازَعَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَقَالَ: عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ بِتَجْنِيسٍ أَصْلًا، وَأَنَّ السَّاعَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّجْنِيسُ أَنْ يَتَّفِقَ اللَّفْظُ وَيَخْتَلِفَ الْمَعْنَى، وَأَلَّا تَكُونَ إِحْدَاهُمَا حَقِيقَةً وَالْأُخْرَى مَجَازًا، بَلْ تَكُونَا حَقِيقَتَيْنِ، وَإِنَّ زَمَانَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ طَالَ لَكِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُكْمِ السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ لَا يُعْجِزُهَا أَمْرٌ وَلَا يَطُولُ عِنْدَهَا زَمَانٌ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ لَفْظَةِ السَّاعَةِ عَلَى أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً، وَعَلَى الْآخَرِ مَجَازًا، وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنَ التَّجْنِيسِ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: رَكِبْتُ حِمَارًا، وَلَقِيتُ حِمَارًا، وَأَرَدْتَ بِالثَّانِي الْبَلِيدَ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ السَّاعَةَ الْأُولَى خَاصَّةً وَزَمَانَ الْبَعْثِ، فَيَكُونُ لَفْظُ السَّاعَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَخْرُجُ عَنِ التَّجْنِيسِ. الثَّانِي: يَقْرُبُ مِنْهُ الِاقْتِضَابُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} (الرُّومِ: 43). وَقَوْلِهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 276). وَقَوْلِهِ: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} (الْوَاقِعَةِ: 89). وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (فُصِّلَتْ:: 51). {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 168). {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 54). {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} (يُوسُفَ: 84). {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النُّورِ: 37). {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} (الْأَنْعَامِ: 79). {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ} (التَّوْبَةِ: 38). الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَاسَ مِنَ الْمَحَاسِنِ اللَّفْظِيَّةِ لَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلِهَذَا تَرَكُوهُ عِنْدَ قُوَّةِ الْمَعْنَى بِتَرْكِهِ، وَلِذَلِكَ مِثَالَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (الصَّافَّاتِ: 125) فَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ ": " أَنَّ الْكَاتِبَ الْمُلَقَّبَ بِالرَّشِيدِ، قَالَ: لَوْ قِيلَ: " أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَدَعُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ " لَكَانَ تَحْصُلُ بِهِ رِعَايَةُ مَعْنَى التَّجْنِيسِ أَيْضًا، مَعَ كَوْنِهِ مُوَازِنًا لِـ " تَذَرُونَ ". وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِأَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ، بَلْ لِأَجْلِ قُوَّةِ الْمَعَانِي وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُرَاعَاةُ الْمَعَانِي أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ، فَلَوْ كَانَ " أَتَدْعُونَ " " وَتَدَعُونَ " كَمَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ لَوَقَعَ الْإِلْبَاسُ عَلَى الْقَارِئِ، فَيَجْعَلُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ تَصْحِيفًا مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْخَرِمُ اللَّفْظُ إِذَا قَرَأَ " وَتَدْعُونَ " الثَّانِيَةَ بِسُكُونِ الدَّالِ، لَا سِيَّمَا وَخَطُّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ لَا ضَبْطَ فِيهِ وَلَا نَقْطَ. قَالَ: وَمِمَّا صُحِّفَ مِنَ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِقِرَاءَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} (الْأَعْرَافِ: 156) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} (التَّوْبَةِ: 114) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَوْلُهُ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عَبَسَ: 37) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مَنْ تَدْعُونَ " عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. قُلْتُ: وَأَجَابَ الْجُوَيْنِيُّ عَنْ هَذَا بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ أَنَّ " يَذَرُ " أَخَصُّ مِنْ " يَدَعُ "؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَعْنَى تَرَكَ الشَّيْءِ اعْتِنَاءً بِشَهَادَةِ الِاشْتِقَاقِ، نَحْوَ الْإِيدَاعِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْوَدِيعَةِ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِحَالِهَا، وَلِهَذَا يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الدَّعَةُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ، وَأَمَّا " تَذَرُ " فَمَعْنَاهَا التَّرْكُ مُطْلَقًا، أَوِ التَّرْكُ مَعَ الْإِعْرَاضِ وَالرَّفْضِ الْكُلِّيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا يُنَاسِبُ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ، فَأُرِيدَ هُنَا تَبْشِيعُ حَالِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي الْإِعْرَاضِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الرَّاغِبِ: يُقَالُ: فُلَانٌ يَذَرُ الشَّيْءَ، أَيْ: يَقْذِفُهُ؛ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَالْوَذَرَةُ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: " هُوَ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ "، قَالَ تَعَالَى: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (الْأَعْرَافِ: 70) وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} (الْأَعْرَافِ: 127) {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الْأَنْعَامِ: 112) {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (الْبَقَرَةِ: 278) وَإِنَّمَا قَالَ: تَذَرُوَنَ وَلَمْ يَقُلْ: " تَتْرُكُونَ " وَ " تَخْلُفُونَ " لِذَلِكَ. انْتَهَى. وَعَنِ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ التَّجْنِيسَ تَحْسِينٌ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ وَالْإِحْسَانِ، وَهَذَا مَقَامُ تَهْوِيلٍ، وَالْقَصْدُ فِيهِ الْمَعْنَى، فَلَمْ يَكُنْ لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظَةِ فَائِدَةٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الرُّومِ: 55). الْمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يُوسُفَ: 17) قَالَ: مَعْنَاهُ: وَمَا أَنْتَ مُصَدِّقٌ لَنَا، فَيُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِنَاسِ، وَهَلَّا قِيلَ: " وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ " فَإِنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَى الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِعَايَةِ التَّجْنِيسِ اللَّفْظِيِّ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي " مُؤْمِنٍ لَنَا " مِنَ الْمَعْنَى مَا لَيْسَ فِي " مُصَدِّقٍ " وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: " مُصَدِّقٌ لِي " فَمَعْنَاهُ: قَالَ لِي: صَدَقْتَ. وَأَمَّا " مُؤْمِنٌ " فَمَعْنَاهُ مَعَ التَّصْدِيقِ إِعْطَاءُ الْأَمْنِ، وَمَقْصُودُهُمُ التَّصْدِيقُ وَزِيَادَةٌ، وَهُوَ طَلَبُ الْأَمْنِ؛ فَلِهَذَا عَدَلَ إِلَيْهِ. فَتَأَمَّلْ هَذِهِ اللَّطَائِفَ الْغَرِيبَةَ، وَالْأَسْرَارَ الْعَجِيبَةَ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِعْجَازِ. فَائِدَةٌ قَالَ الْخَفَاجِيُّ: " إِذَا دَخَلَ التَّجْنِيسَ نَفْيٌ عُدَّ طِبَاقًا؛ كَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزُّمَرِ: 9) لِأَنَّ " الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " هُمُ الْجَاهِلُونَ، قَالَ: وَفِي هَذَا يَخْتَلِطُ التَّجْنِيسُ بِالطِّبَاقِ.
مَعْنَاهُ وَأَقْسَامُهُ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّقَابُلِ، كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلِيَبْكُوا كَثِيرًا} (التَّوْبَةِ: 82) طَابَقَ بَيْنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَمِثْلُهُ: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الْحَدِيدِ: 23). {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النَّجْمِ: 43- 44). {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} (الْكَهْفِ: 18). {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرَّعْدِ: 10). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}... (آلِ عِمْرَانَ: 26) الْآيَةَ. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} (فَاطِرٍ: 19- 22). ثُمَّ إِذَا شُرِطَ فِيهِمَا شَرْطٌ وَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي ضِدَّيْهِمَا ضِدُّ ذَلِكَ الشَّرْطِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}... (اللَّيْلِ: 5- 6) الْآيَةَ، لَمَّا جَعَلَ التَّيْسِيرَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالتُّقَى وَالتَّصْدِيقِ، جَعَلَ ضِدَّهُ وَهُوَ التَّعْسِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَضْدَادِ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَهِيَ الْمَنْعُ وَالِاسْتِغْنَاءُ وَالتَّكْذِيبُ. وَمِنْهُ: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (الْحَاقَّةِ: 22- 23) قَابَلَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالدُّنُوِّ. وَقَوْلُهُ: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (الْغَاشِيَةِ: 13- 14). وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (الْقَصَصِ: 73) فَذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَهُمَا ضِدَّانِ، ثُمَّ قَابَلَهُمَا بِضِدَّيْنِ وَهُمَا الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ، ثُمَّ عَبَّرَ عَنِ الْحَرَكَةِ بِلَفْظِ الْإِرْدَافِ، فَاسْتَلْزَمَ الْكَلَامُ ضَرْبًا مِنَ الْمَحَاسِنِ زَائِدًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْحَرَكَةِ إِلَى لَفْظِ ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ؛ لِكَوْنِ الْحَرَكَةِ تَكُونُ لِلْمَصْلَحَةِ دُونَ الْمَفْسَدَةِ، وَهِيَ تَسِيرُ إِلَى الْإِعَانَةِ بِالْقُوَّةِ وَحُسْنِ الِاخْتِيَارِ الدَّالِّ عَلَى رَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَسَلَامَةِ الْحِسِّ، وَإِضَافَةِ الظَّرْفِ إِلَى تِلْكَ الْحَرَكَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَاقِعَةٌ فِيهِ؛ لِيَهْتَدِيَ الْمُتَحَرِّكُ إِلَى بُلُوغِ الْمَأْرَبِ. وَمِنَ الطِّبَاقِ الْمَعْنَوِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 15- 16) مَعْنَاهُ: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا لَصَادِقُونَ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} (الْبَقَرَةِ: 22) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي " الْحُجَّةِ ": لَمَّا كَانَ الْبِنَاءُ رَفْعًا لِلْمَبْنِيِّ قُوبِلَ بِالْفِرَاشِ الَّذِي هُوَ عَلَى خِلَافِ الْبِنَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الْبِنَاءُ عَلَى مَا فِيهِ ارْتِفَاعٌ فِي نَصِيبِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدَرًا. وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الطِّبَاقُ الْخَفِيُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نُوحٍ: 25) لِأَنَّ الْغَرَقَ مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ فِي النَّارِ وَالنَّارِ، قَالَ ابْنُ مُنْقِذٍ: وَهِيَ أَخْفَى مُطَابَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} (يس: 80) فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَخْضَرِ وَالْأَحْمَرِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ تَدْبِيجٌ بَدِيعِيٌّ. وَمِنْهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (الْبَقَرَةِ: 179) لِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ الْقَتْلُ، فَصَارَ الْقَتْلُ سَبَبَ الْحَيَاةِ. قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: وَهَذَا مِنْ أَمْلَحِ الطِّبَاقِ وَأَخْفَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الزُّخْرُفِ: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (الْآيَةِ: 17) لِأَنَّ " ظَلَّ " لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا نَهَارًا، فَإِذَا لَمَّحَ مَعَ ذِكْرِ السَّوَادِ كَأَنَّهُ طِبَاقٌ يُذْكَرِ الْبَيَاضُ مَعَ السَّوَادِ. وَقَوْلُهُ: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} (غَافِرٍ: 41).
وَفِيهَا مَبَاحِثُ:
وَهِيَ ذِكْرُ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُوَازِيهِ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِ، وَيُخَالِفُهُ فِي بَعْضِهَا، وَهِيَ مِنْ بَابِ " الْمُفَاعَلَةِ " كَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الطِّبَاقِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الطِّبَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ غَالِبًا، وَالْمُقَابَلَةَ تَكُونُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ غَالِبًا. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ الطِّبَاقُ إِلَّا بِالْأَضْدَادِ، وَالْمُقَابَلَةُ بِالْأَضْدَادِ وَغَيْرِهَا؛ وَلِهَذَا جَعَلَ ابْنُ الْأَثِيرِ الطِّبَاقَ أَحَدَ أَنْوَاعِ الْمُقَابَلَةِ.
الْمُقَابَلَةُ: وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: نَظِيرِيٌّ، وَنَقِيضِيٌّ، وَخِلَافِيٌّ، وَالْخِلَافِيُّ أَتَمُّهَا فِي التَّشْكِيكِ، وَأَلْزَمُهَا بِالتَّأْوِيلِ، وَالنَّقِيضِيُّ ثَانِيهَا، وَالنَّظِيرِيُّ ثَالِثُهَا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلَ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّحْوِيُّ الْقَلْعِيُّ: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَارِدٌ عَلَيْهَا بِظُهُورِ نُكَتِهِ الْحِكْمِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، مِنَ الْكَائِنَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ وَالْوَسَائِطِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْأَوَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ؛ حَيْثُ اتَّحَدَتْ مِنْ حَيْثُ تَعَدَّدَتْ، وَاتَّصَلَتْ مِنْ حَيْثُ انْفَصَلَتْ، وَأَنَّهَا قَدْ تَرِدُ عَلَى شَكْلِ الْمُرَبَّعِ تَارَةً، وَشَكْلِ الْمُسَدَّسِ أُخْرَى، وَعَلَى شَكْلِ الْمُثَلَّثِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّشْكِيلَاتِ الْعَجِيبَةِ، وَالتَّرْتِيبَاتِ الْبَدِيعَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ أَمْثِلَةً مِنْ ذَلِكَ. مِثَالُ مُقَابَلَةِ النَّظِيرَيْنِ: مُقَابَلَةُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255) لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ بَابِ الرُّقَادِ الْمُقَابَلِ بِالْيَقَظَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} (الْكَهْفِ: 18) وَهَذِهِ هِيَ مُقَابَلَةُ النَّقِيضَيْنِ أَيْضًا، ثُمَّ السِّنَةُ وَالنَّوْمُ بِانْفِرَادِهِمَا مُتَقَابِلَانِ فِي بَابِ النَّظِيرَيْنِ وَمَجْمُوعِهِمَا وَيُقَابِلَانِ النَّقِيضَ الَّذِي هُوَ الْيَقَظَةُ. وَمِثَالُ مُقَابَلَةِ الْخِلَافَيْنِ: مُقَابَلَةُ الشَّرِّ بِالرَّشَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (الْجِنِّ: 10) فَقَابَلَ الشَّرَّ بِالرَّشَدِ؛ وَهُمَا خِلَافِيَّانِ، وَضِدُّ الرَّشَدِ الْغَيُّ، وَضِدُّ الشَّرِّ الْخَيْرُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي يُخْرِجُهُ لَفْظُ الشَّرِّ ضِمْنًا نَظِيرُ الرَّشَدِ قَطْعًا، وَالْغَيُّ الَّذِي يُخْرِجُهُ لَفْظُ الرَّشَدِ ضِمْنًا نَظِيرُ الشَّرِّ قَطْعًا فَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا الشَّكْلِ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: نُطْقَانِ وَضِمْنَانِ، فَكَانَ بِهِمَا رُبَاعِيَّانِ. وَهَذَا الشَّكْلُ الرُّبَاعِيُّ يَقَعُ فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وُجُوهٍ، فَقَدْ يَرِدُ وَبَعْضُهُ مُفَسَّرٌ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ يَرِدُ وَكُلُّهُ مُفَسَّرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (الْقِيَامَةِ: 31- 32) فَقَابَلَ " صَدَّقَ " بِـ " كَذَّبَ " " وَصَلَّى " الَّذِي هُوَ أَقْبَلَ بِـ " تَوَلَّى ". قَوْلُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الْوَاقِعَةِ: 25- 26) اللَّغْوُ فِي الْحَيْثِيَّةِ الْمُنْكَرَةِ وَالتَّأْثِيمُ فِي الْحَيْثِيَّةِ النَّاكِرَةِ، وَاللَّغْوُ مَنْشَأُ الْمُنْكَرِ وَمَبْدَأُ دَرَجَاتِهِ، وَالتَّأْثِيمُ مَنْشَأُ التَّكَبُّرِ وَمَبْدَأُ دَرَجَاتِهِ، فَلَا نَكِيرَ إِلَّا بَعْدَ مُنْكَرٍ، وَلَا اعْتِقَادَ إِنْكَارٍ إِلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ تَأْثِيمٍ، وَمَنْشَأُ اللَّغْوِ فِي أَوَّلِ طَرَفِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَآخِرُهُ فِي طَرَفِ الْمَحْظُورَاتِ وَمَبْدَأِ التَّأْثِيمِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (الْبَقَرَةِ: 30) فَقَابَلَ الْإِفْسَادَ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ، وَسَفْكَ الدِّمَاءِ بِالتَّقْدِيسِ، فَالتَّسْبِيحُ بِالْحَمْدِ إِذَنْ يَنْفِي الْفَسَادَ، وَالتَّقْدِيسُ يَنْفِي سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَالتَّسْبِيحُ شَرِيعَةٌ لِلْإِصْلَاحِ، وَالتَّقْدِيسُ شَرِيعَةُ حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَشَرِيعَةُ التَّقْدِيسِ أَشْرَفُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّسْبِيحِ، فَإِنَّ التَّسْبِيحَ بِالْحَمْدِ لِلْإِصْلَاحِ لَا لِلْفَسَادِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ لِلتَّسْبِيحِ لَا لِلتَّقْدِيسِ، وَهَذَا شَكْلٌ مُرَبَّعٌ، مِنْ أَرْضِيٍّ وَهُوَ الْإِفْسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ، وَسَمَائِيٍّ وَهُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ، وَالْأَرْضِيُّ ذُو فَصْلَيْنِ، وَالسَّمَائِيُّ ذُو فَصْلَيْنِ، وَوَقْعُ النَّفْسِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَوَسِّطَيْنِ، فَالطَّرَفَانِ الْإِفْسَادُ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيسُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَالْوَسَطَانِ آخِرُ الْأَرْضِ، وَأَوَّلُ السَّمَاءِ، فَالْأَوَّلُ مُتَشَرِّفٌ عَلَى الْآتِي، وَالْآخِرُ مُلْفِتٌ إِلَى الْمَاضِي: وَكَمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ كُلِّ مُوجَزٍ *** يَدُورُ عَلَى الْمَعْنَى وَعَنْهُ يُمَاصِعُ لَقَدْ جَمَعَ الِاسْمُ الْمَحَامِدَ كُلَّهَا *** مَقَاسِيمُهَا مَجْمُوعَةٌ وَالْمَشَايِعُ وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْحَبْرُ مَرْمًى عَظِيمٌ، يُوَصِّلُ إِلَى أُمُورٍ غَيْرِ مُتَجَاسَرٍ عَلَيْهَا، كَمَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَغَيْرِهَا.
وَقَسَّمَ بَعْضُهُمُ الْمُقَابَلَةَ إِلَى أَرْبَعٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقَدَّمَاتِ مَعَ قَرِينَةٍ مِنَ الثَّوَانِي، أَقْسَامُ الْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النَّبَأِ: 10- 11). وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ الْمُقَدَّمَاتِ مَعَ قَرِينَةِ الثَّوَانِي مُرَتَّبَةً مِنْ أَوَّلِهَا، أَقْسَامُ الْمُقَابَلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (الْقَصَصِ: 73). وَكَذَلِكَ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 217). الثَّالِثُ: أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ الْمُقَدَّمَاتِ ثُمَّ بِجَمِيعِ الثَّوَانِي مُرَتَّبَةً مِنْ آخِرِهَا، أَقْسَامُ الْمُقَابَلَةِ وَيُسَمَّى رَدَّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 106- 107). الرَّابِعُ: أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ الْمُقَدَّمَاتِ ثُمَّ بِجَمِيعِ الثَّوَانِي مُخْتَلِطَةً غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ، أَقْسَامُ الْمُقَابَلَةِ وَيُسَمَّى اللَّفَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (الْبَقَرَةِ: 214) فَنِسْبَةُ قَوْلِهِ: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 214) إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}. كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: يَقُولُ الرَّسُولُ. إِلَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}؛ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ يَصْدُرَانِ عَنْ مُتَبَايِنَيْنِ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الْأَنْعَامِ: 52) فَنِسْبَةُ قَوْلِهِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الْأَنْعَامِ: 52) إِلَى قَوْلِهِ: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الْأَنْعَامِ: 52) كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} (الْأَنْعَامِ: 52) إِلَى قَوْلِهِ: فَتَطْرُدَهُمْ (الْأَنْعَامِ: 52) فَجَمَعَ الْمُقَدَّمَيْنِ التَّالِيَيْنِ بِالِالْتِفَاتِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَقْسَامِ التَّقَابُلِ مُقَابَلَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: مُقَابِلٌ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} (النَّمْلِ: 50). وَمُقَابِلٌ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} (سَبَأٍ: 50) فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقَابُلُ هُنَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، لَكَانَ التَّقْدِيرُ: " وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَإِنَّمَا اهْتَدَيْتُ لَهَا ". وَبَيَانُ تَقَابُلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، أَنَّ النَّفْسَ كُلُّ مَا هُوَ عَلَيْهَا لَهَا، فَهُوَ، أَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهَا وَصَارَ لَهَا فَهُوَ بِسَبَبِهَا وَمِنْهَا؛ لِأَنَّهَا أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مِمَّا يَنْفَعُهَا فَبِهِدَايَةِ رَبِّهَا وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا، وَهَذَا حُكْمٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ، وَإِنَّمَا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُسْنِدَ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ تَحْتَهُ مَعَ عُلُوِّ مَحَلِّهِ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النَّمْلِ: 86) فَإِنَّهُ لَمْ يَدَعِ التَّقَابُلَ فِي قَوْلِهِ: {لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ " وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ "، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَاعًى مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى " مُبْصِرًا " تُبْصِرُونَ فِيهِ طُرُقَ التَّقَلُّبِ فِي الْحَاجَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَقَابُلِ الْمَعَانِي بَابًا عَظِيمًا يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ، وَهُوَ يَتَّصِلُ غَالِبًا بِالْفَوَاصِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ} (الْبَقَرَةِ: 11- 12) إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَشْعُرُونَ (الْبَقَرَةِ: 12). وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} (الْبَقَرَةِ: 13) إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ (الْبَقَرَةِ: 13). فَانْظُرْ فَاصِلَةَ الثَّانِيَةِ (يَعْلَمُونَ) وَالَّتِي قَبْلَهَا (يَشْعُرُونَ) لِأَنَّ أَمْرَ الدِّيَانَةِ وَالْوُقُوفَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَجْتَمِعُونَ وَهُمْ مُطِيعُونَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، حَتَّى يَكْسِبَ النَّاظِرُ الْمَعْرِفَةَ وَالْعِلْمَ؛ وَإِنَّمَا النِّفَاقُ- وَمَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ- أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَاتِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ: يَعْلَمُونَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السَّفَهَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى- وَهُوَ جَهْلٌ- كَانَ ذِكْرُ الْعِلْمِ طِبَاقًا. وَعَلَى هَذَا تَجِيءُ فَوَاصِلُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِهِ. وَمِنَ الْمُقَابَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} (الْبَقَرَةِ: 268) فَتَقَدَّمَ اقْتِرَانُ الْوَعْدِ بِالْفَقْرِ وَالْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ، ثُمَّ قُوبِلَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْوَعْدُ، فَأَوْهَمَ الْإِخْلَالَ بِالثَّانِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا لَمَّا كَانَ الْفَضْلُ مُقَابِلًا لِلْفَقْرِ، وَالْمَغْفِرَةُ مُقَابِلَةٌ لِلْأَمْرِ بِالْفَحْشَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَحْشَاءَ تُوجِبُ الْعُقُوبَةَ، وَالْمَغْفِرَةَ تُقَابِلُ الْعُقُوبَةَ، اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ الْمُقَابِلِ عَنْ ذِكْرِ مُقَابَلِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا مَلْزُومُ ذِكْرِ الْآخَرِ.
تَقْسِيمٌ مِنْ مُقَابَلَةِ اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ تَقْسِيمُ الْمُقَابَلَةِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (التَّوْبَةِ: 82). وَمِنْ مُقَابَلَةِ أَرْبَعَةٍ بِأَرْبَعَةٍ تَقْسِيمُ الْمُقَابَلَةِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}... (اللَّيْلِ: 5 إِلَى 10) الْآيَةَ. وَمِنْ مُقَابَلَةِ خَمْسٍ بِخَمْسٍ تَقْسِيمُ الْمُقَابَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (الْبَقَرَةِ: 26) لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَهُوَ مِنَ الطِّبَاقِ الْخَفِيِّ، الثَّانِي: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الثَّالِثُ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} وَالرَّابِعُ: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (الْبَقَرَةِ: 27) الْخَامِسُ: يَقْطَعُونَ وَ (أَنْ يُوصَلَ). وَمِنْ مُقَابَلَةِ سِتٍّ بِسِتٍّ تَقْسِيمُ الْمُقَابَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (آلِ عِمْرَانَ: 14) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 15) قَابَلَ الْجَنَّاتِ وَالْأَنْهَارَ وَالْخُلْدَ وَالْأَزْوَاجَ وَالتَّطْهِيرَ وَالرِّضْوَانَ بِإِزَاءِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وَمِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ بَدَأَ بِذِكْرِ النِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَخَتَمَ بِالْحَرْثِ، وَهُمَا طَرَفَانِ مُتَشَابِهَانِ، وَفِيهِمَا الشَّهْوَةُ وَالْمَعَاشُ الدُّنْيَاوِيُّ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْأَزْوَاجِ كَمَا يَجِبُ فِي التَّرْتِيبِ الْأُخْرَوِيِّ، وَخَتَمَ بِالرِّضْوَانِ.
فَائِدَةٌ قَدْ يَجِيءُ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْمُقَابَلَةِ فِي الظَّاهِرِ؛ وَإِذَا تُؤُمِّلَ كَانَ مِنْ أَكْمَلِ الْمُقَابَلَاتِ؛ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَنْ لَا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} (طه: 118، 119) فَقَابَلَ الْجُوعَ بِالْعُرْيِ وَالظَّمَأَ بِالضَّحَى، وَالْوَاقِفُ مَعَ الظَّاهِرِ رُبَّمَا يُحِيلُ أَنَّ الْجُوعَ يُقَابَلُ بِالظَّمَأِ، وَالْعُرْيَ بِالضَّحَى. وَالْمُدَقِّقُ يَرَى هَذَا الْكَلَامَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ أَلَمُ الْبَاطِنِ، وَالضَّحَى مُوجِبٌ لِحَرَارَةِ الظَّاهِرِ، فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ جَمِيعَ نَفْيِ الْآفَاتِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَابَلَ الْخُلُوَّ بِالْخُلُوِّ، وَالِاحْتِرَاقَ بِالِاحْتِرَاقِ، وَهَاهُنَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْمُتَنَبِّي وَسَيْفِ الدَّوْلَةِ، لَمَّا أَنْشَدَهُ: وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ *** كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِمُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} (هُودٍ: 24) فَإِنَّهُ قَدْ يَتَبَادَرُ فِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا قِيلَ: " مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ " لِتَكُونَ الْمُقَابَلَةُ فِي لَفْظِ الْأَعْمَى وَضِدِّهِ بِالْبَصِيرِ، وَفِي لَفْظِ الْأَصَمِّ وَضِدِّهِ بِالسَّمِيعِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ انْسِدَادَ الْعَيْنِ أَتْبَعَهُ بِانْسِدَادِ السَّمْعِ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ انْفِتَاحَ الْبَصَرِ أَعْقَبَهُ بِانْفِتَاحِ السَّمْعِ؛ فَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هُوَ الْأَنْسَبُ فِي الْمُقَابَلَةِ، وَالْأَتَمُّ فِي الْإِعْجَازِ.
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 37). {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (الْمَائِدَةِ: 96). الْعَكْسُ وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ جُزْءٌ ثُمَّ يُؤَخَّرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 10) وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ " أَيْ لَا حِلَّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُشْرِكِ " وَالْآيَةُ صَرَّحَتْ بِنَفْيِ الْحِلِّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (الْمَائِدَةِ: 5) أَيْ: ذَبَائِحُكُمْ، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِحُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، تَقْطَعُ الْمُعَانِدَ لَهُ فِيهِ. وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ فِي " بَدِيعِهِ " حَيْثُ أَنْكَرَ وُجُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 22) ثُمَّ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الثَّانِيَ امْتَنَعَ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْأَوَّلِ، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ: الْمُمْتَنِعُ الْأَوَّلُ لِأَجَلِ الثَّانِي، فَالتَّعَدُّدُ مُنْتَفٍ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْفَسَادِ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 79). وَقَوْلُهُ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} (يس: 81) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الْخَلِيلِ {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} 3. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الرُّومِ: 27) الْمَعْنَى: أَنَّ الْأَهْوَنَ أَدْخَلُ فِي الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُوَ، فَالْإِعَادَةُ أَدْخَلُ فِي الْإِمْكَانِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا}... (الْمُؤْمِنُونَ: 91) الْآيَةَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ تَقْدِيرُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقَانِ لَاسْتَبَدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِخَلْقِهِ، فَكَانَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَيُؤَدِّي إِلَى تَنَاهِي مَقْدُورَاتِهِمَا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْإِلَهِيَّةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ وَاحِدًا ثُمَّ زَادَ فِي الْحِجَاجِ فَقَالَ: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 91) أَيْ: وَلَغَلَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمُرَادِ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَ جِسْمٍ وَالْآخِرُ إِمَاتَتَهُ لَمْ يَصِحَّ ارْتِفَاعُ مُرَادِهِمَا؛ لِأَنَّ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ مُحَالٌ، وَلَا وُقُوعُهُمَا لِلتَّضَادِّ، فَنَفَى وُقُوعَ أَحَدِهَا دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ الْمَغْلُوبُ، وَهَذِهِ تُسَمَّى دَلَالَةَ التَّمَانُعِ، مَعْنَاهَا وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 42). وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 23). وَقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الْوَاقِعَةِ: 58، 59) فَبَيَّنَ أَنَّا لَمْ نَخْلُقِ الْمَنِيَّ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ غَيْرَنَا. وَمِنْهُ نَوْعٌ مَنْطِقِيٌّ وَهُوَ اسْتِنْتَاجُ النَّتِيجَةِ مِنْ مُقَدَّمَتَيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الْآيَةِ: 7) فَنَطَقَ عَلَى خَمْسِ نَتَائِجَ مِنْ عَشْرِ مُقَدَّمَاتٍ؛ فَالْمُقَدَّمَاتُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الْحَجِّ: 5) وَالنَّتَائِجُ مِنْ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} (الْحَجِّ: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الْحَجِّ: 7). وَتَفْصِيلُ تَرْتِيبِ الْمُقَدَّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَخَبَرُهُ هُوَ الْحَقُّ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنِ الْغَيْبِ بِالْحَقِّ فَهُوَ حَقٌّ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِالسَّاعَةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلَا يُعْلَمُ صِدْقُ الْخَبَرِ إِلَّا بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيُدْرِكُوا ذَلِكَ، وَمَنْ يَأْتِي بِالسَّاعَةِ يُحْيِي الْمَوْتَى؛ فَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجْعَلُ النَّاسَ مِنْ هَوْلِ السَّاعَةِ سُكَارَى لِشِدَّةِ الْعَذَابِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ إِلَّا مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّاعَةَ يُجَازَى فِيهَا مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُجَازَاتِهِ، وَلَا يُجَازَى حَتَّى تَكُونَ السَّاعَةُ آتِيَةً، وَلَا تَأْتِي السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَهُوَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَاللَّهُ يُنَزِّلُ الْمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ فَتُنْبِتُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، وَالْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (ص: 26) مُقَدَّمَتَانِ وَنَتِيجَةٌ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُوجِبُ الضَّلَالَ، وَالضَّلَالَ يُوجِبُ سُوءَ الْعَذَابِ؛ فَأَنْتَجَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُوجِبُ سُوءَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الْأَنْعَامِ: 76) أَيِ: الْقَمَرُ أَفَلَ، وَرَبِّي لَيْسَ بِآفِلٍ، فَالْقَمَرُ لَيْسَ بِرَبِّي، أَثْبَتَهُ بِقِيَاسٍ اقْتِرَانِيٍّ جَلِيٍّ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي، وَاحْتَجَّ بِالتَّعْبِيرِ عَلَى الْحُدُوثِ وَالْحُدُوثِ عَلَى الْمُحْدِثِ.
مَعْنَاهُ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمَةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْمُتَكَلِّمُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَقْتَضِي أَشْيَاءَ مُسْتَحِيلَةً كَقَوْلِهِمْ: الْجَوَاهِرُ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، أَوْ لَا مُفْتَرِقَةً وَلَا مُجْتَمِعَةً، أَوْ مُجْتَمِعَةً وَمُفْتَرِقَةً مَعًا، أَوْ بَعْضُهَا مُجْتَمِعٌ وَبَعْضُهَا مُفْتَرِقٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ صَحِيحَةٌ عَقْلًا، لَكِنَّ بَعْضَهَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مُجْتَمِعًا مُتَفَرِّقًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا بِالتَّقْسِيمِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى مِمَّا يُمْكِنُ وُجُودُهُ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْمُتَكَلِّمِ أَقْسَامَ الشَّيْءِ، بِحَيْثُ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا وَهُوَ آلَةُ الْحَصْرِ وَمَظِنَّةُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (فَاطِرٍ: 32) فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْعَالَمُ جَمِيعًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: إِمَّا عَاصٍ ظَالِمٌ نَفْسَهُ، وَإِمَّا سَابِقٌ مُبَادِرٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَإِمَّا مُقْتَصِدٌ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ التَّقْسِيمَاتِ وَأَكْمَلِهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} (الْوَاقِعَةِ: 7 إِلَى 10) وَهَذِهِ الْآيَةُ مُمَاثِلَةٌ فِي الْمَعْنَى لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هُمُ الْمُقْتَصِدُونَ، وَالسَّابِقُونَ هُمُ السَّابِقُونَ بِالْخَيْرَاتِ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} (مَرْيَمَ: 64) الْآيَةَ، فَاسْتَوْفَى أَقْسَامَ الزَّمَانِ وَلَا رَابِعَ لَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} (النُّورِ: 45) إِلَى قَوْلِهِ: مَا يَشَاءُ (النُّورِ: 45) وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَخُصُوصًا فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (الرَّعْدِ: 12) وَلَيْسَ فِي رُؤْيَةِ الْبَرْقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَوْلُهُ: {فَسُبْحَانُ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الرُّومِ: 17- 18) فَاسْتَوْفَتْ أَقْسَامَ الْأَوْقَاتِ مِنْ طَرَفَيْ كُلِّ يَوْمٍ وَوَسَطِهِ مَعَ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُقَابَلَةِ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 191) فَلَمْ يَتْرُكْ سُبْحَانَهُ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ الْهَيْئَاتِ. وَمِثْلُهُ آيَةُ يُونُسَ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (الْآيَةَ: 12). لَكِنْ وَقَعَ بَيْنَ تَرْتِيبِ الْآيَتَيْنِ مُغَايِرَةٌ أَوْجَبَتْهَا الْمُبَالَغَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ فِي الْأُولَى الصَّلَاةُ، فَيَجِبُ فِيهَا تَقْدِيمُ الْقِيَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقُعُودِ، ثُمَّ عِنْدَ الِاضْطِجَاعِ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ الضُّرِّ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الِاضْطِجَاعِ، وَإِذَا زَالَ بَعْضُ الضُّرِّ قَعَدَ الْمُضْطَجِعُ، وَإِذَا زَالَ كُلُّ الضُّرِّ قَامَ الْقَاعِدُ، فَدَعَا لِتَتِمَّ الصِّحَّةُ وَتَكْمُلَ الْقُوَّةُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً، فَإِنَّهَا تُحَصِّلُ فِي الْكَلَامِ حُسْنَ اتِّسَاقٍ وَائْتِلَافَ الْأَلْفَاظِ مَعَ الْمَعَانِي، وَقَدْ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى " أَوْ " الَّتِي سَقَطَ مَعَهَا ذَلِكَ. قُلْتُ: يَأْتِي التَّضَرُّعُ عَلَى أَقْسَامٍ: فَإِنَّ مِنْهُ مَا يَتَضَرَّعُ الْمَضْرُورُ عِنْدَ وُرُودِهِ، وَمِنْهُ مَا يُقْعِدُهُ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِي وَصَاحِبُهُ قَائِمٌ لَا يَبْلُغُ بِهِ شَيْئًا، وَالدُّعَاءُ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنَ التَّضَرُّعِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ وَالْجَزَعَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنِ الْوَاوِ لِتَوَخِّي الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ، وَالْكَلَامُ مَعَ ذَلِكَ مَوْصُوفٌ بِالِائْتِلَافِ، وَيَحْصُلُ النَّسَقُ وَالْخَبَرُ بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَبِالثَّانِي عَنْ أَشْخَاصٍ، فَغَلَّبَ الْكَثْرَةَ، فَوَجَبَ الْإِتْيَانُ بِـ " أَوْ " وَابْتُدِئَ بِالشَّخْصِ الَّذِي تَضَرَّعَ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ أَشَدُّ فَهُوَ أَشَدُّ تَضَرُّعًا، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِهِ، ثُمَّ الْقَاعِدُ ثُمَّ الْقَائِمُ، فَحَصَلَ حُسْنُ التَّرْتِيبِ وَائْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا. وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} (الشُّورَى: 49- 50) قَسَّمَ سُبْحَانَهُ حَالَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوُجُودُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ يُفْرِدَ الْعَبْدَ بِهِبَةِ الْإِنَاثِ، أَوْ بِهِبَةِ الذُّكُورِ، أَوْ يَجْمَعُهُمَا لَهُ، أَوْ لَا يَهَبُ شَيْئًا، وَقَدْ جَاءَتِ الْأَقْسَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى أَعْلَى مِنْهَا، وَهِيَ هِبَةُ الذُّكُورِ فِيهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا، وَهِيَ هِبَتُهُمَا جَمِيعًا، وَجَاءَتْ كُلُّ أَقْسَامِ الْعَطِيَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَأَفْرَدَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ بِالتَّأْخِيرِ، وَقَالَ فِيهِ: (يَجْعَلُ) فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْهِبَةِ لِلتَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعَانِي، كَقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلَنَاهُ حُطَامًا} (الْوَاقِعَةِ: 63- 65) فَذَكَرَ امْتِدَادَ إِنْمَائِهِ بِلَفْظِ الزَّرْعِ، وَمَعْنَى الْحِرْمَانِ بِلَفْظِ الْجَعْلِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا بَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) لِوُجُوهٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ. أَحَدُهَا: جَبْرًا لَهُنَّ؛ لِأَجْلِ اسْتِثْقَالِ الْأَبَوَيْنِ لِمَكَانِهِنَّ. الثَّانِي: أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ أَنَّهُ فَاعِلٌ لِمَا يَشَاءُ، لَا مَا يَشَاءُ الْأَبَوَانِ، فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ لَا يُرِيدَانِ إِلَّا الذُّكُورَ غَالِبًا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ الصِّنْفِ الَّذِي يَشَاؤُهُ وَلَا يُرِيدُهُ الْأَبَوَانِ غَالِبًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُوهُنَّ، أَيْ: هَذَا النَّوْعُ الْحَقِيرُ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ. الرَّابِعُ: قَدَّمَهُنَّ لِضَعْفِهِنَّ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ تَكُونُ الْعِنَايَةُ أَتَمَّ. وَقِيلَ: لِيَنْقِلَهُ مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَجِ. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَرَّفَ سُبْحَانَهُ الذُّكُورَ بَعْدَ تَنْكِيرٍ، فَجَبَرَ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ بِالتَّقْدِيمِ، وَجَبَرَ نَقْصَ الْمُتَأَخِّرِ بِالتَّعْرِيفِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ تَنْوِيهٌ. وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ عَرَّفَ الذُّكُورَ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الصِّنْفَيْنِ مَعًا قَدَّمَ الذُّكُورَ، فَأَعْطَى لِكُلٍّ مِنَ الْجِنْسَيْنِ حَقَّهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ. بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَ وَالرَّابِعَ بِالْوَاوِ، وَالثَّالِثَ بِـ " أَوْ "، وَلَعَلَّهُ لِأَنَّ هِبَةَ كُلٍّ مِنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا، فَكَأَنَّهُ وَهَبَ لِهَذَا الصِّنْفِ وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَتْ " أَوْ "، فَتَأَمَّلْ لَطَائِفَ الْقُرْآنِ وَبَدَائِعَهُ. وَمِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْخُنْثَى لَا وُجُودَ لَهُ؛ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ امْتِنَانٍ، وَالْمِنَّةُ بِغَيْرِ الْخُنْثَى أَحْسَنُ وَأَعْظَمُ، أَوْ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالْخُنْثَى لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِهِمَا.
مَعْنَاهُ هِيَ إِيقَاعُ الْأَلْفَاظِ الْمُبَدَّدَةِ عَلَى سِيَاقٍ وَاحِدٍ؛ وَأَكْثَرُ مَا يُؤْخَذُ فِي الصِّفَاتِ؛ وَمُقْتَضَاهَا أَلَّا يُعْطَفَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِاتِّحَادِ مَحَلِّهَا، وَلِجَرْيِهَا مَجْرَى الْوَصْفِ فِي الصِّدْقِ عَلَى مَا صَدَقَ؛ وَلِذَلِكَ يَقِلُّ عَطْفُ بَعْضِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَعْضٍ فِي التَّنْزِيلِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (الْبَقَرَةِ: 255). وَقَوْلِهِ: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (الْحَشْرِ: 24). وَقَوْلِهِ: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} (الْحَشْرِ: 23). وَإِنَّمَا عُطِفَ قَوْلُهُ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الْحَدِيدِ: 3) لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ مُتَضَادَّةُ الْمَعَانِي فِي مَوْضُوعِهَا، فَرَفَعَ الْوَهْمَ بِالْعَطْفِ عَمَّنْ يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ ظَاهِرًا بَاطِنًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْعَطْفُ فِيهِ أَحْسَنَ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ " النَّاهُونَ " عَلَى " الْآمِرُونَ " وَ " أَبْكَارًا " عَلَى " ثَيِّبَاتٍ "، مِنْ قَوْلِهِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 112). وَقَوْلِهِ: {أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (التَّحْرِيمِ: 5) فَجَاءَ الْعَطْفُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} (غَافِرٍ: 3) إِنَّمَا عَطَفَ فِيهِ بَعْضًا وَلَمْ يَعْطِفْ بَعْضًا، لِأَنَّ غَافِرًا وَقَابِلًا يُشْعِرَانِ بِحُدُوثِ الْمَغْفِرَةِ وَالْقَبُولِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَفِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ لَا فِي نَفْسِهِ، فَدَخَلَ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ لِتَنَزُّلِهِمَا مَنْزِلَةَ الْجُمْلَتَيْنِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ هَذَا وَيَفْعَلُ هَذَا، وَأَمَّا شَدِيدُ الْعِقَابِ فَصِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِالدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَتَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ صِفَاتِ الذَّاتِ. وَقَوْلُهُ: {ذِي الطَّوْلِ} (غَافِرٍ: 3) الْمُرَادُ بِهِ ذَاتُهُ، فَتَرَكَ الْعَطْفَ لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَقَدْ جَاءَ قَلِيلًا فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}... (الْأَحْزَابِ: 35) الْآيَةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَطْفُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} فِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، إِذَا اشْتَرَكَا فِي حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَوْسِيطِ الْعَاطِفِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا الْعَطْفُ الثَّانِي فَمِنْ عِطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ بِحِرَفِ الْجَمْعِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَامِعِينَ وَالْجَامِعَاتِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعَدَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصِّفَاتُ الْمُتَعَاطِفَةُ إِنْ عُلِمَ أَنَّ مَوْصُوفَهَا وَاحِدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَقَوْلِهِ: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غَافِرٍ: 3) فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ اللَّهُ، وَإِمَّا فِي النَّوْعِ كَقَوْلِهِ: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (التَّحْرِيمِ: 5) فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ الْأَزْوَاجُ، وَقَوْلِهِ: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (التَّوْبَةِ: 112) فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ النَّوْعُ الْجَامِعُ لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ مَوْصُوفَهَا وَاحِدٌ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ اللَّفْظِ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ اتُّبِعَ كَهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْدَادَ لِمَنْ جَمَعَ الطَّاعَاتِ الْعَشْرَ لَا لِمَنِ انْفَرَدَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا؛ إِذِ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْطُهُ فِي الْآخَرِ، وَكِلَاهُمَا شَرْطٌ فِي حُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى الْبَوَاقِي، وَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَلَهُ أَجْرُهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَقَرَنَ بِهِ إِعْدَادَ الْمَغْفِرَةِ زَائِدًا عَلَى الْمَغْفِرَةِ، فَلِخُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَاحْتَمَلَ تَقْدِيرَ مَوْصُوفٍ مَعَ كُلِّ صِفَةٍ وَعَدَمِهِ، حُمِلَ عَلَى التَّقْدِيرِ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، وَلَا يُقَالُ: الْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُقَدَّمُ عَلَى رِعَايَةِ ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}... (التَّوْبَةِ: 60) الْآيَةَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الصَّدَقَةَ إِلَّا مَنْ جَمَعَ الصِّفَاتِ الثَّمَانِي، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالنُّحَاةِ وَالْفُقَرَاءِ اسْتَحَقَّ مَنْ فِيهِ إِحْدَى الصِّفَاتِ.
|